سكن

 

في قرانا الخير كله

الجذور الأصيلة

.كما بيوتنا ملتصقة بعضها ببعض ككتلة واحدة كانت قلوبنا كذلك

بقلم: سعيد بن علي دلبوح

رئيس مركز طريب بإمارة منطقة عسير

§ من أجلِّ صفات من سبقونا: الحكمة، والروية، وحسن الفطنة

§ كانت أيامًا الكل يخاف على جاره ويسعد لسعده ويحزن لحزنه

§ رغم قساوة الحياة كان المجتمع أكثر فرحًا وعونًا!

§ البيوت تعبر عما في نفوس أصحابها

 

بدأت الشمس ترسل أشعتها الذهبية من خلال بقايا الغيوم المتناثرة في سماء القرية بعد يوم ماطر.. خرجتُ من المنزل ألقي بنظري إلى المكان.. جذبني المنظر الساحر وكأني أراه لأول مرة، أخذ نظري ينتقل ما بين منظر وآخر يرصد ذلك العناق الحار بين أشعة الشمس وخضرة المزارع، ما أعطاها بريقًا فاتنًا، وزاد من روعة المنظر ألوان قوس قزح المتلألئة.
نظرت إلى القرية القديمة فشدني كل ما فيها: روعة مبانيها الحجرية، وحصونها ذات الأدوار المتعددة التي يزين أطرافها ونوافذها الحجر الأبيض.. كان المنظر يعطي إيحاء بشموخ الماضي وعزيمة رجاله. وأكثر ما سرني هو ترك القرية القديمة على وضعها دون المساس بأي من مبانيها، فقد شكلت مع القرية الجديدة تمازجًا فريدًا لروعة التراث، وأناقة العمران الحديث.

تنقلت بناظريّ هنا وهناك، وكأن المكان يحث على المزيد من متعة مشاهدة هذه الصور الساحرة، توقف بي الفضول عند نافذة في أعلى منزل الشيخ أحمد «شيخ القرية»، حيث بدا منها ذلك الشيخ الوقور، وهو أكبر شيخ في القرية سنًا وقدرًا، يعده الجميع والدًا للطفه، وحكمته، وحلمه، والكل يخاطبه بجدي أحمد، فهو جد القرية. وقد وجدتني مشتاقًا لزيارته والحديث معه.. فلم أتردد، وعند وصولي إلى منزله طرقت الباب واستأذنت في الدخول والصعود إليه. آثرت أن أدخل بهدوء حتى وصلت إلى باب الغرفة وكان يطل من النافذة غارقًا في بحر من الذكريات، تفحصت المكان، وجدت أمامه مصحفه القديم الذي لا يستطيع القراءة إلا فيه ونظارته الموضوعة بجانب المصحف وأمامه«دلة» من القهوة وشيء من التمر، وكان الجو في الغرفة يشعرك بالدفء سلمت عليه، التفت نحوي رأيته كما هو دائمًا.. ذلك الشيخ المهيب، ذو القسمات المضيئة، يزين وجهه لحية بيضاء أعطت له المزيد من الوقار، تشعر حين النظر إليه أن الماضي عظيم في كل شيء، فهو ينقلك إلى الزمن الراحل بذكرياته العظيمة والجميلة، فهو جزء منه.
قلت له: أريد أن أسألك يا جدي العزيز لماذا جلوسك الدائم عند هذه النافذة؟ وما سر هذا الاستغراق في النظر للقرية القديمة بالذات؟
أجابني، وباهتمام، يا بني: إن هذه النافذة تطل على قريتنا القديمة ومنها أشعر بأن الماضي يعود إليّ كحلم جميل.. اقترب بني وأطل معي.. وقفت بجانبه وتأملتُ.. باهتمام شديد.
قال: ألا ترى حصون هذه القرية وبيوتها ومداخلها ومخارجها، إن كل جزء فيها يحمل ذكرى لدي.. بني: عندما أنظر إلى الحصن الكبير في أعلى القرية أتذكر والدي، رحمه الله، عندما كان يجلس في شرفة الحصن المطلة على القرية ويستقبل الناس من أفراد القرية للإصلاح بينهم.. وكنت متأثرًا بأسلوبه في معالجة الخصومات.. وما زلت أذكر أول قضية حضرت فيها، حيث أتاه رجلان متخاصمان بسبب تعدي أحدهما على الآخر في مزرعته.. حيث إن المكان هنا هو كل ثروتهم.. بيوت صنعوها من حجارة أثقلت كواهلهم، وأراض حرثوها بأنامل من تعبهم.. وزرعوها بكثير من طيبتهم، وحبهم، وسقوها عرقًا نديًا.. لذا كانت هي كل مستقبلهم واستثمارهم. فلما أقبل الرجلان..رحب بهما ترحيبًا كريمًا كعادة أبناء هذا الوطن المضياف.. وأمرني بإحضار القهوة لهما.
أحضرت القهوة والتمر.. ووالدي يتحدث لهما عن موسم الأمطار ووقت حرث المزارع، ثم بعد أن شربا القهوة طلب والدي منهما أن يدلي كل منهما «بحجته».. جلس في اهتمام لسماعهما وأخذ كل منهما يشرح ما لديه، وأدهشتني قوة حجة كل منهما، وكان سؤالي: كيف سيحكم والدي في هذه القضية الصعبة؟ لكن العجيب.. أن والدي طلب طلبًا غريبًا!
حسنًا، ما هذا الطلب يا جدي؟ لقد طلب بأن يتبعاه إلى مكان قريب فأجاباه لطلبه وذهبا معه وذهبت معهم لمعرفة ما سوف يحدث بدافع الفضول.. وأخذ يمشي حتى خرجنا من القرية ووصلوا إلى المقبرة.. وألقوا التحية على أهلها.. وطلب منهما الدخول معه، وبعد أن دخلا مكث صامتًا فترة من الوقت، ثم قال لهما: يا أخوان أريد أن أسألكما سؤالًا: هل أخذ أحد من هؤلاء الموتى معه شيئًا من حطام الدنيا؟ فأجابا: لا.
والله لقد رأيت أحدهما وهو يقاوم العبرة ثم يقول، وهو في انهيار تام، إنني ظلمت نفسي وجاري، وطمعت فيما ليس لي.. فكل ما أرجوه من الله ثم منكما السماح.. فقال له والدي عفا الله عما سلف وأنتما ستبقيان جارين متحابين دومًا. فقال الآخر صدقت أيها الشيخ الجليل، وإني أشهدك وأشهد الله إنني سامحته.
ثم قال لي والدي اذهب وقل لأهلك أن يعدوا لنا واجب الضيوف.
الله الله يا جدي وبهذه البساطة تم ذلك؟!
نعم يا بني، لأن الناس يحملون قلوبًا طيبة، قريبة من الله، ويحتاج من يخطئ فيهم إلى التذكير فقط وسوف تجده سريعًا يعود إلى الحق. وكان من أجلِّ صفات من سبقونا: الحكمة، والروية، وحسن الفطنة..لما قد يؤثر في المتخاصمين بحسب قضاياهم.
وبعد صمت.. قال لي الشيخ الحكيم: بني: هل ترى تلك الساحة التي في وسط القرية؟
نعم إني أراها التي جانبها حجر كبير.
قال: بني: إن هذه الساحة حدث فيها موقف لن أنساه، ففي أحد الأيام وعند موسم الحصاد قام كل شخص بحصد زرعه وانتهى الجميع من حصاد مزارعهم ولم يبق في القرية إلا مزرعة رجل مسن يدعى أبا محمد، كان له ولدان صغيران فقط، فقد تزوج مبكرًا ولكن لم يأته أولاد من زوجته الأولى ولم يتزوج أخرى.. إلا بعد وفاتها، حيث كان محبًا وفيًا لها، ثم رزق بـ محمد وسعد وكانا صغيرين. وذات نهار.. سمعنا مناديًا في هذه الساحة وكان المنادي هو نفسه الشيخ المسن أبا محمد ومن على الحجر الكبير التي في جانب الساحة يقول: سمعت من أحد المارة أن الجراد قضى على المحاصيل الواحد تلو الآخر في كثير من القرى التي ليست بعيدة عنا، وأنه لابد أن يأتي إلينا.. العون.. العون.. من الله ثم منكم.
فاجتمع أهل القرية شبابًا وشابات، وكل من يستطيع أن يقوم بالعمل، ولم تغب شمس ذلك اليوم إلا وقد انتهى الجميع من حصد المحصول ووضعوه في المكان المخصص لتغطيته من آفات الجراد. آه.. إنها أيام الكل يخاف فيها على جاره، ويسعد لسعده، ويحزن لحزنه.. كيف لا تريدني يا بني أن أسرح في هذا الماضي الجميل؟!
جدي: إنه ماض جميل، وذكريات أجمل، ما أروعكم وأروع أنفسكم، وكيف كنتم مخلصين بعضكم لبعض، ومتعاونين!
نعم بني، فنحن لا نستطيع بغير ذلك أن نعيش.
الله عليكم! ما أجمل مجتمعكم على كثرة ما تعانون قسوة الحياة!
الجد: نعم بني، إننا كنا نعاني قسوة الحياة لعدم وجود الإمكانيات المتاحة كما لديكم، ولكن يا بني، أليس الإنسان يسعى إلى توفير كل احتياجاته لإسعاد نفسه ومن حوله؟!
قلت: نعم.
فقال بني: كنا نشعر بتلك السعادة، لأن القلوب واحدة، نفرح لفرح أحدنا، ونحزن لحزن أحدنا.. نكون جميعًا عونًا لبعضنا، تجدنا عند الحاجة يدًا واحدة.
بني: هل ترى بيوتنا كيف هي ملتصقة معًا بعضها ببعض ككتلة واحدة. كانت قلوبنا كذلك، فالبيوت تعبر عما في نفوس أصحابها.. فهم شيء واحد.
جدي: إنني قد أرهقتك بكثرة الأسئلة، ولي معك لقاء قريب.. أستودعك الله، وأتركك مع ذكرياتك الجميلة التي هي عالم جميل خاص بك